هـي قـانـا الأولــى لمـن نسـي 109 شهــداء
تعج الذاكرة الجنوبية بالتواريخ والمسميات. ففي الوقت الذي يجهد فيه
اللبنانيون لتحويل 13 نيسان من ذكرى إلى عبرة «حتى ما تنعاد»، تبدو ذاكرة
الجنوبيين مثقلة بالمحطات التي سبقت الحرب الأهلية اللبنانية وعاصرتها
وتتالت في ما بعدها. وفيما يتشارك الجنوبيون اليوم، مع بقية إخوانهم في
الوطن، القلق من انبعاث الرعب الأهلي، يحتفظون بقلقهم الخاص من محطة جديدة
على درب جلجلة معاناتهم مع الحروب الإسرائيلية المتكررة منذ اغتصاب فلسطين
وحتى اليوم.
قبل عملية الليطاني في ,1978 كانت المواجهات الأولى مع الحرس الشعبي في 1972 وقبلهما كانت مجزرة حولا.
بعد الليطاني جاء اجتياح 1982 ومعه «الشريط الحدودي» المحتل والمحرر عام
.2000 بين 1982 و2000 نزوح وتهجير وتنكيل وقتل وعمليات مقاومة لا تحصى ولا
تعد أنتجت أفواجا من شهداء عبدوا طريق التحرير.
بين الاجتياح والتحرير كانت «حرب السبعة أيام» عام .1993 تلتها حرب «الستة
عشر يوماً» في .1996 لا يستعمل الجنوبيون السنوات، يسمون الحروب التي خيضت
عليهم بأيامها، وآخرها حرب الـ«33 يوماً» في تموز .2006
تتالت المحطات ـ الحروب الثلاث الأخيرة وفقاً لعملية حسابية تضاعفية.
«والله وحده يعلم متى وكيف ستأتي الحلقة المقبلة»، سؤال لا يغيب عن يوميات
الجنوبيين الذين، وإن عانى معهم بقية الللبنانيين من آثار الحروب
الإسرائيلية المتتابعة، فإنهم يبقون الضحية الأولى القابعة «في فوهة
المدفع» بكل معنى الكلمة.
إنه الموعد السنوي مع قانا الأولى، بعدما منحت إسرائيل لقانا الجليل وعجيبة السيد المسيح مجزرة ثانية.
على الطريق من صور إلى قانا، يتعامل المسعف في جمعية الرسالة للإسعاف
الشعبي موسى نصر الله مع الاعتداءات الثلاثة الأخيرة وفقاً للتصنيفات
الجنوبية: «عدوان تموز 1993 كان رحلة وحرب نيسان 1996 كانت «ترويجة» للحرب
الحقيقية في 2006». عمل موسى في في المحطات على إنقاذ الجرحى والمصابين
وسحب جثث الشهداء.
وحدها مجزرة قانا الأولى تخلط الأوراق: «قانا بتبقى قانا... لا قبلها ولا
بعدها كمجزرة، سواء لناحية موقعها وعدد الضحايا والطريقة التي استشهدوا
فيها»، يضيف المسعف في الدفاع المدني عبد الرؤوف جرادي، أبو شادي.
يعود موسى إلى رائحة الدم التي لازمته ثلاثة ايام قبل مجزرة قانا. كان سحب
والمسعف سلام خضر جثة من بافليه قرب جويا وعادا إلى مركزهما.
يومها حضر أحد أصحاب المنازل القريبة من مركز الإسعاف فسأله موسى وسلام ألاستحمام في منزله.
من داخل الحمام خرج موسى على صوت زميله رضا :«في مجزرة بقانا»، قال له ورماه بـ«درع وطاسة».
داخل سيارة الإسعاف رسم موسى صورة لمجزرة من عشر ضحايا... الدقائق الأولى
للخروج من صور خصصها رفيقا الطريق داخل الإسعاف لقراءة الآيات القرآنية.
نحن مع موسى الآن في منطقة الحوش على بعد 17 كيلومتراً عن قانا. بدأ موسى
بقراءة «حجم ما حدث من وجوه الناس المتهافتة على الطرقات. وضعت النساء
يداً فوق الأخرى وإصطف الناس على الطرقات غير آبهين بالطيران الإسرائيلي
يحلق على مستوى منخفض».
يلتفت رضا نحو موسى ويقول له إن سيارة الإسعاف لا تمشي. ينظر رضا إلى ساعة
الكيلومتراج فيجد إبرتها على المئة وأربعين، فيطلب من رضا أن ينظر إلى
الأشجار الهاربة بمحاذاتهما ليتأكد من مضيه قدماً.
في الوقت الذي كان موسى ورضا يسلكان الطريق إلى موقع المجزرة، كان أبو
شادي وجمال خليل من الدفاع المدني يصلان إلى قانا ووراءهما سلام خضر
بإسعافه الخاص. «كان الفيجيون يمنعون الناس والصحافيين من الدخول وقد
أحكموا إغلاق البوابة الرئيسية»، يقول ابو شادي.
جمال، المسعف سائق الإطفائية ورفيق أبو شادي «جريء ومتحمس. ركَّب غيار
تقيل ونسف بوابة مركز الطوارئ، وكاد أن يدهس عنصراً فيجياً لولا أنه قفز
بعيداً».
ما يزال مشهد «النبريش» الأزرق الرفيع بمائه الشحيحة في يد جندي الأمم
المتحدة يطفئ به النيران الهائلة التي تلتهم الهنغارات بمن فيها أمام عيني
ابو شادي «والباقيين حاملين أغصان أشجار صغيرة عم يطفوا فيها».
وأبو شادي يركز مع جمال على إخماد النيران، كان موسى يتلقى صدمته الأولى.
في قلب الصريخ والعويل وأنين الجرحى «كان المشهد كيوم القيامة». وصل موسى
إلى الهنغار الأول حيث جمع جنود قوات الطوارئ جثث الشهداء: «انقطعت
الكهرباء»، هكذا وصف موسى ما شعر به: «عيوني وسعوا وارتخى فكي ألأسفل...
رأيت ما لم أكن محضراً له». لم يفق موسى من ذهوله إلاّ على بكاء رضا عندما
رأى سلام يسحب طفلاً رضيعاً بلا رأس عن صدر أمه الشهيدة.
كان الرضيع في يومه السابع عشر بالكاد يكبر سليمان. وسليمان هو رضيع رضا الذي ولد في أول يوم من عدوان نيسان ولما يره رضا بعد.
قبل مجزرة قانا بيوم واحد، اتصل أهل رضا به وأبلغوه أنهم نزحوا عن ضيعته
الجنوبية بعدما صنعوا لسليمان الرضيع مهداً من كرتونة صغيرة هُجِّر
بداخلها. لم ير رضا في جثث رضّع قانا التي كان يسحبها، ومسعفين آخرين، سوى
«وجه سليمان» رضيعه، كما قال لموسى بعد المجزرة بيومين.
بعد امتصاص الصدمة، تماسك شباب الإسعاف إلى أي جهة انتموا وأكملوا عملهم.
في الوقت عينه يسرع أبو شادي ليتأكد من استشهاد امرأة سقطت أرضاً على
بطنها. يتأكد من موتها عبر نبضها. يسحبها إلى الأعلى ليجد أنها سحبت معها
طفليها الشهيدين مضمومين إلى صدرها.
انتهى موسى وزملاؤه من توضيب جثث ضحايا الهنغار استعداداً لنقلها، وعبروا
إلى الخارج ليأخذوا «نفساً عميقاً على أساس أننا انتهينا من كل شيء».
خارجاً كان جندي من الفيجيين بانتظارهم: «في ناس بعد هون» قال وهو يشير إلى كومة من ألواح التوتيا ـ الزينكو.
فكر موسى وهو في طريقه لسحب الألواح «في شهيد أو شهيدين: «وليس بحوالى 35
إلى 40 شخصاً متكومين على بعضهم البعض». قصفت إسرائيل الصاروخ الأول فتجمع
اللاجئون إلى الهنغار يحتمون بأجساد بعضهم فتفحموا بـ«الفوسفور» كتلة
واحدة». كانت تلك صدمة موسى الثانية بعد صدمة الهنغار الأولى.
يفيق موسى من صدمته الثانية على مشهد زميله عيسى سليمان وهو يبكي. يربت
موسى على كتف عيسى «مش وقتها يا عيسى...بعدين». يكمل عيسى عمله إلى
نهايته، ويعرف موسى في اليوم التالي أن ولدي شقيق عيسى القادميّن لقضاء
عطلتهما في لبنان كانا من بين ضحايا المجزرة وبين يدي عيسى بالذات. كان
الطفلان في الخامسة من عمرهما استشهدا مع والدتهما.
بعد سحب الجثث المتفحمة، لملَم المسعفون ثلاثة توابيت من الأشلاء على وقع
طلب الطوارئ منهم الانسحاب: «قالوا إن إسرائيل تهدد بالقصف مجدداً. لم
يقبل أي مسعف إخلاء الموقع: «قلنا لهم إما أن نموت كلنا وإما نكمل عملنا»،
كان قرار الجميع موحداً.
ملأ موسى ورضا سيارة الإسعاف بالجثامين المتفحمة. لم يكن في سيارة الإسعاف
أي فاصل بين مكان السائق والمكان المخصص للجرحى أو الضحايا. بعد عشرة
أمتار من موقع المجزرة و«مصل السيروم» يسيل من الجثث المتفحمة والروائح
تفوح بقوة، نزل موسى ورضا من سيارتهما بعدما نزفت عيونهما ماء.
من على حافة الطريق أسرعت سيدة باتجاه موسى ورضا تعرض مساعدتهما. طلب موسى
منها ما يمكن استعماله ككمامة. مدت الحاجة المسنة يدها إلى جسدها وبلحظة
مزقت «شلحتها» البيضاء القطنية من تحت فستانها وأعطتها لهما قطعيتن.
من قانا إلى مستشفى نجم في صور نُقل المصابون والضحايا على حد سواء. من
هناك لا تغيب عن بال المسعف في الصليب الأحمر اللبناني يوسف الرفاعي
العائد لتوه بجريحين من قانا، صورة ذلك الطفل الذي وضعه جنود الطوارئ بين
الشهداء وكان حياً...
طلب من يوسف وزملائه تكفين الضحايا: «التكفين ليس عملنا، ولكن لا يمكن ترك الناس وحرماتها في العراء».
جهز يوسف كفناً لامرأة استشهدت ويدها مرفوعة إلى أعلى: «كانت اليد ما تزال
ساخنة ورائحة الحريق تفوح منها. أمسك بمنشفة ولأربع أو خمس مرات أنزل يوسف
يد الشهيدة إلى مستوى جسدها ولكنها كانت ترتفع مجدداً. ربط يوسف اليد ببطن
الشهيدة وأدخل جسدها في الكيس ووضعها مع عشر جثث أخرى من دون أسماء بسبب
التشوه.
ومع هول ما رآه، هرع يوسف إلى اقرب هاتف واتصل بزوجته: «كنت أريد أن أتأكد
أن أولادي ليسوا ضمن أطفال قانا»، يقفل يوسف الخط ويعود بعد التكفين ليتصل
بزوجته طالباً منها إسماعه أصواتهم: «كنت أريد أن أتأكد أن أولادي فعلاً
أحياء».
قانا الثانية
وقعت قانا الثانية بعدما عممت إسرائيل استهداف سيارات ألإسعاف في عدوان
تموز ,2006 وبعدما قتلت مسعفين من جمعية الرسالة والدفاع المدني والصليب
الأحمر... «لم يكن سهلاً خروج سيارات الإسعاف ليلاً»، يقول يوسف. وعليه
تأخر الخروج إلى موقع مجزرة قانا الثانية. وصل يوسف مع رئيس مركز صور إلى
موقع مجزرة قانا الثانية عند الثامنة والنصف صباحاً. كان مسعفون آخرون
وأهل قانا قد سبقوهم إلى حي الخريبة حيث وقعت المجزرة.
ستة أطفال شهداء سجيوا أمام المبنى المنهار كانوا في استقبال يوسف: «كانوا
مخنوقين بالتراب... تراب بعيونهم وبمناخيرهم وبآذانهم...».
وضع يوسف طفلين على حمالة واحدة وركض بهما وهو يصرخ من دون وعي «يا
عباس... يا محمد. يا وائل...ويا... تعوا شوفوا...». ولا يتذكر يوسف ماذا
قال أيضا وعلى من نادى. «قانا الأولى كانت فجيعة ولكنني فجعت بالثانية
أيضاً»، يقول يوسف الذي يرى أن عدوان تموز 2006 أرسى أسساً جديدة للتعامل
في خلال الحروب «لم تحيّد إسرائيل سيارت الإسعاف... كيف للمسعفين أن
يعملوا إذا ما وقعت حرب جديدة».
قانا الجليل
من مقبرة شهداء المجزرة الثانية ندخل إلى قانا الجليل. قبور جديدة وصور
لستة عشرة طفلاً من بين 27 شهيداً... قبلها، في مجزرة 1996 سقط ستون
طفلاً. قانا الجليل وعجيبة الخمر صارت بلدة الشهداء الأطفال بامتياز.
لم تعد قانا شهيرة بمعجزة السيد المسيح عندما حولّ مياه الأجران إلى خمر
في عرس قانا فقط. فيها، تستقبلك لافتات من نوع آخر مختلف عن تلك السياحية
التي تدلك إلى موقع الأجران ومغارة السيد المسيح ورسومات تجسده
وتلامذته... هذه لافتة تأخذك إلى مقبرة شهداء مجزرة قانا الأولى وتلك إلى
أضرحة شهداء المجزرة الثانية. وما بين المجزرتين جيل نما وكبر عشر سنوات
على وقع رواية تفاصيل المجزرة ألأولى، وعلى «رائحة الموت» التي يقول مختار
قانا سامي السيد إنه يشتمّها من مدخل البلدة في كل مرة يغادرها ويعود
إليها.
كان الصغير في قانا والكبير يعتبر أن أي غريب عنها إنما يقصد مجزرتها
الأولى. اليوم يسألونك «أيهما تريد الأولى أو الثانية». وحدها الحافلات
السياحية ذات الطابع الديني الآتية لزيارة المواقع المرتبطة بمعجزة السيد
المسيح تخرق القاعدة. وعادة ما يميزها أهالي قانا عن غيرها.
زوار ذهبوا مع عدوان 2006
لا تعد ولا تحصى الحافلات والناس الذين قصدوا قانا منذ وقوع مجزرتها
الأولى عام .1996 حافلات شهدت تراجعاً لا يقل عن سبعين إلى ثمانين في
المئة بعد عدوان تموز .2006 لا يعيد أهل البلدة، ومنهم الشاب الناجي من
المجزرة الأولى إبراهيم كرشت، السبب إلى فظاعة ما أتى به عدوان 2006 مما
جعل قانا تبدو عادية: «الناس خايفة من كل شي، مش بس من الطلعة على قانا».
قبل لحظات من وقوع مجزرة قانا ,1996 كان إبراهيم يلعب مع صديقه علي شوقي
بلحص أمام هنغار ألأمم المتحدة. ندهت أم إبراهيم على طفلها الذي كان في
التاسعة من عمره حينذاك «تعا يا إبراهيم»، وطلبت من علي الالتحاق بوالديه
في الهنغار الثاني «الدنيا حرب خلّيك مع أهلك يا حبيبي»، قالت أم إبراهيم
لعلي.
عندما دوت الانفجارات المتتالية لم يبحث إبراهيم سوى عن أمه الحامل في
شهرها التاسع، ثم عن إخوته ووالده «كانوا كلهم بخير الحمد لله».
غادر إبراهيم قانا مع من أجلتهم فرق الإسعاف، ومنهم عرف أن علي وعائلته قد
أبيدوا عن آخر فرد: «يمكن مش مكتوب له يعيش وحيد بهالدنيا»، يعزي إبراهيم
نفسه.
اليوم لا يبرح علي متحف شهداء قانا. يستقبل القادمين، يروي لهم والناجي
جميل سلامة (41 عاماً) تفاصيل ما يتذكرونه من المجزرة، يشرحان صوراً قليلة
معلقة على يافطة حديدية في زاوية قاعة المعرض، ومعها لوحات فنية قدمها عدد
من الفنانين من وحي قانا ومجزرتها.
متحف كبير وضخم فيه قاعة محاضرات وأخرى للاجتماعات ومكاتب ولكنه، وربما
بعد 12 سنة على المجزرة الأولى، يبدو بحاجة إلى إعادة تنظيم وترتيب
ليتناسب مع حجم القضية التي أنشئ من أجلها. تبدو الصور المعروضة في متحف
شهداء قانا، على سبيل المثال لا الحصر، أقل مما يمكن أن يقتنيه أي مصور
صحافي أو يوثقها أي أرشيف.
في المتحف لا يمكنك إلاّ أن تتخيل «لو كنا نحن من ارتكب مجرزة بحجم مجزرة
قانا بإسرائيل؟، ماذا كانت فعلت وكيف قدمتها للرأي العام العالمي وكيف
ستعيد إحياءها كل عام؟».
هي بالتأكيد ستدخلها في المناهج التربوية وستجعل زيارة موقعها إلزامية لكل
من تطأ قدماه فلسطين المحتلة، ولكل تلامذة مدارسها في كل المراحل. بينما،
في لبنان، لا يعرف أهل قانا حتى اليوم ما إذا تم إدراج بلدتهم على اللائحة
السياحية الرسمية أم لا.
طبعاً ليست الدولة التي تهتم بمتحف مجزرة البلدة بل لجنة تخليد شهداء
قانا، مشكورة. ولكن هل يمكن لمأساة بهذا الحجم أن تهمل في ذكراها الثانية
عشرة إلى درجة ترى فيها شواهد بعض الأضرحة مكسّرة وبعض أسماء الشهداء
ممحية، فيما يأكل الهشير موقع المجزرة المحاذي للمقبرة. هناك لمن يتناسى
تحول مئة وتسعة شهداء إلى اكوام من اللحم والفحم، عدا عن الناجين من
معوقين جسدياً ومصدومين نفسياً ومعهم أرامل وأيتام وكثيرون ممن توقفت
حياتهم عند المجزرة.
ليست قانا كبلدة بأفضل حال. لم يغير الإقبال الكثيف قبل عدوان تموز 2006
من وضعها. ما يزال أهلها يربون أولادهم حتى الرابعة عشرة من العمر
ويرسلونهم إلى بلاد الاغتراب للعمل في التجارة والمصالح الحرة.
وفي دكاكينها التي تكاثرت بعض الشيء علّها تجد في القادمين بعض الزبائن،
ما يزال أصحابها «يتشمسون» في جو عام من الركود المسيطر على معظم البلدات
والمناطق الجنوبية واللبنانية عموماً. «لم تستفد البلدة وتزدهر من
القادمين»، يؤكد مختار قانا سامي السيد «يأتون إلى المقبرة والمتحف
ويغادرون عائدين أدراجهم».
تنتصف شمس نيسان التي بكّرت في حماوتها... تصل صبية إلى مدخل مقبرة
المجزرة الأولى، ترفع يديها وتبدأ بتلاوة الفاتحة. إنها ابنة إحدى
الشهيدات تقرأ الفاتحة عن روح أمها. لم تقترب تلك التي عرّفت عن نفسها
بـ«مها» من أي من القبور: «ما بعرف أمي وين بالضبط مدفونة»، قالت قبل أن
ترحل.
لا أحد يعرف في قانا الأولى أين دفنوا شهداءه بالتحديد.
عجزت إسرائيل رغم كل ما ارتكبته في عدوان تموز 2006 من مجازر أن تنسينا قانا الـ 109 شهداء.
في قانا الأولى لم ترتكب إسرائيل القتل الجماعي فقط هي صهرت ضحاياها... لم
يحترم موت قانا خصوصية أفراده، وأتى الحزن على شاكلته... الفاتحة تقرأ
جماعياً والدموع تذرف جماعياً. هي مقبرة لأسماء، ليس فيها لخصوصية
الجثامين مكان.