عدد الرسائل : 576 العمر : 34 الموقع : الجنوب-النبطية تاريخ التسجيل : 06/05/2008
موضوع: حسم معارك بيروت ..تعرف على القائد الفذ الخميس سبتمبر 25, 2008 9:23 pm
القـــــ الفذ ــــائد
شرطة مجلس النواب مع عناصر من حركة أمل اثناء المواجهات
لشاعر أو السياسي، أو مهندس النظام، لكنّه حتماً ليس المحامي. الشخص الأكثر إثارة للحيرة، الذي ترأس المجلس النيابي منذ عام 1992 حتّى الساعة، لا يختفي من الحياة السياسيّة للحظة. الصعب على الوصف، كما على الغلبة، البسيط ظاهراً، والشائك المتعدّد باطناً، العميق حدّ إغراق محدّثيه وابتلاعهم، الذي حين يقف أمامه نوّاب الأمّة يصبحون من خفّتهم كتلامذة كسالى أو مشاغبين
يخبرك المحيطون بنبيه برّي بماضيه، الرجل الذي يقف في وسط قصر عين التينة المخصص لسكن رئيس مجلس النواب، والذي يسير في صالونه طوال ساعات يومياً. هو من «التقط لحظة صعود تاريخية وسار بها»، كما يقول أحد أقرب المقربين منه، إلا أن تاريخه الطويل معلوم ــ مجهول، جمع ما بين رئاسة حركة أمل، ومحافظته على شعرة معاوية مع الجميع. صادق الخصم وقاتل الصديق، وصافح الجميع من أقصى يمينه إلى أقصى يساره. يتحدث مع المزارع، ويسأل عن أولاده، ويقدم الخدمات للسياسيين من دون تردد، ويتابع تفاصيل البلاد من الشمال إلى الجنوب، وثمة من يقاطعه كل حين ليبلغه آخر الآنباء في البلاد وخارجها، فيتأمل بري للحظات في الأوراق المكتوبة بالأنباء، قبل أن يعود إلى سيره في بهو قصره.
وبين حين وآخر، يتوقف نبيه بري عن السير، ويرتفع صوته بالكلام بلكنته الجنوبية المميزة، وهو ابن عائلة تُعرَف باسم عائلة الشيخ في تبنين، وحامل سمرتها الخاصة، ووارث عيون ملونة عميقة، ثم يعاود الرجل سيره في الصالون الواسع. قلة يدركون أهمية تحدثه بهذه اللكنة، والأغلبية تسخر بعيداً عن مسامع الرجل من لكنة قاسية، إلا أنه لا أحد يجرؤ على التعليق أمامه، هو الرجل الذي له من العلاقات والسلطة ما يكاد يجنبه المساءلة، ومن الحنكة ما يوقفه خارج دائرة التشاتم السياسي. يقف ليحاجج أحد الخلّص من رجاله عن مدى بندقية القناصة، يرتفع صوته «يا حبيبي....» ثم ينتهي النقاش سريعاً ويعود إلى السير.
لا يكاد يخفي بري أسراراً عن مسامع من يسيرون قربه في بهو الصالون، فهو جاهز للإجابة عما يسأل عنه، إلا أن للرجل أسلوبه الخاص، فهو يعلم أن جزءاً من الكلام لن يخرج من قصره، وإن خرج فلن ينسب إليه، وإن نسب إليه فلن يزعجه، فلا أحد يمكنه ممارسة المكر مع سيد قصر الرئاسة الثانية. فبري في النهاية هو الذي يلعب مع الثعالب في السياسة اللبنانية والذي يخرج ضاحكاً تاركاً خلفه الثعالب منهكة وجائعة.
المكر ليس التعبير الذي يمكن وصف بري به، وهو الذي خاض حروباً أهلية بدأت مع تسلمه زمام حركة أمل من الرئيس حسين الحسيني، ولم تنته عام 1990 مع نهاية الحرب الأهلية. خاصم وحالف الكل تقريباً، خسر في الحروب العسكرية، إلا أنه لم يخسر مرة في السياسة، حتى عندما انهزم. وكان إلى جانبه في الانتصارات السياسية وليد جنبلاط، الذي قاتل مع بري وضده، والذي احترب معه في الميدان حيناً وفي السياسة أحياناً، إلا أنه ولمرحلة طويلة مثّل توأم بري، حتى حين شغلا بيروت بحرب العلمين، أو حين انتفضا معاً على أمين الجميل في انتفاضة بيروت والضاحية والجبل عامي 1983 و1984. حتى أصبح بري يردد أمام محدثيه «أعرف وليد، وأعرف دائماً ماذا يريد وماذا يعني» وربما أكثر.
في العديد من المراحل، كان بري يمثّل أحد عناوين المشاركة في بناء دولة الفساد، وخاصة في مرحلة الترويكا، التي ألّفها رفيق الحريري، وشاركهما فيها الرئيس إلياس الهراوي. كانت الاتهامات تُتبادل وتُلقى يميناً ويساراً عن نهب الدولة من مجلس الإنماء والإعمار وصندوق المهجرين ومجلس الجنوب ووادي الذهب، وكان أغلب الاتهام يوجه إلى الحريري، ويلحق بري ما يلحقه من الاتهامات.
مثّل الرجل مرحلة الخروج من الحرب، وكان صديقه الحريري يقول إنه يمثّل مرحلة ماضية، بينما ينسب إلى نفسه المرحلة المستقبلية التي يحكم فيها لبنان رجال دولة لم يشاركوا في المعارك والنزاعات الأهلية.
إلا أن بري المتهم والمنتصر سياسياً والقائد الذي يدير شؤون طائفة ووطن، الذي تمكن من تجاوز محنة المجلس النيابي و«تجنيبه النزاع الأهلي والمصادرة من قوى الأكثرية» وفرض عليه حظراً أدى في النهاية إلى عودة المجلس لمناقشة البيان الحكومي، هذا الرجل لا يزال يتعدد في الأوجه والمسارات، مواصلاً قيادة البرلمان وحركة أمل ويحصد نتائج قراره الاستثمار في الدولة الذي اتخذه مع نهاية الحرب الأهلية.
المكر ليس التعبير الذي يمكن أن يوصف به بري، الرجل الذي يقف قليلاً ويضع يده على ساعدك، كاسراً الجليد بحركة تلقائية، بينما كنت تحاول دفعه إلى الانفعال «لقد كسرت ظهر المستقبل، واليوم نتحدث عن ضرورة توازن هذا التيار»، فيخبرك وهو يشد على ساعدك ويخاطبك بصيغة «يا أستاذ فلان»، «حين بدأ إطلاق النار يصل قرب القصر كنت أقف هنا تماماً، وحاول (أحد المقربين) النظر من النافذة فمنعته، ثم وصل صوت انفجار، وعلمت بعدها أن أحد حراس القصر قد استشهد، «عندها، ولا أخفيك سراً، قلت للشباب اتكلوا على الله» معطياً بيده إشارة حاسمة، وكانت يومها بداية نهاية معارك السابع من أيار وتقدم قوات حركة أمل نحو قريطم ومحاصرتها.
يتعب الرجل سريعاً من كلام السياسة، ومن إصرار محدِّثيه، فيلتفت التفاتة يعلم المقربون منه أنها بحث عن مخرج من حديث ممض، أو يبدل الحديث، فيقدم إليك بعض الفاكهة، سائلاً إن كنت ستعلم ما هي، وحين تعجز يخبرك أنها عنّاب ياباني، «هربت يومين من الإجراءات الإمنية، ذهبت إلى بساتين صيدا، ولدي هناك أشجار العناب هذه». عندها تكف عيناه الملونتان عن التبحير في ما وراء المعاني، وتتحول إلى الضحك، ثم لا يلبث أن يشرع في المزاح. انزاح هم السياسة وثقل النقاش، فيلقي بكلمة ممازحاً أحد الزائرين ويتلفت إليك غامزاً. يخرج الصبي القروي من جلد رجل السلطة فيلعب بين الضيوف في صالون الرئاسة الواسع، فيضحك ويمرح ويحوّل الجِد إلى هزل، وقد يدير ظهره حتى لا يشاهده محدّثه، فيدرك أنه يبتسم وسع فمه، ثم يعود إلى الجد، فيسمع أنباءً مقلقة آتية من الشمال، ويتحدث عن جلسات المجلس النيابي والحوار الوطني وزيارة رئيس البلاد إلى دمشق، ويتذكر رفيق الحريري، ويتحدث عن نجله سعد. لا يلبث أن يصافح ويستقبل وافدين جدداً، ثم يستمع إليهم باهتمام. وحين يصل إلى حزب الله وحسن نصر الله، يكتفي بري بالإشارة إلى «السيّد»، قائلاً: «اتفقت مع السيد، وقلت للسيد، وأخبرني السيد»، وكأن صلتهما يومية، أو كأنّ السيّد شريك كامل في النقاش والحوارات والقرارات التي يتخذها بري بما يتعلق بالمواقف الرئيسية، من دون أن يفصح عن طرق وأساليب الاتصال والتواصل.
لا ينهي بري مساءه دون شرب الشاي. فبعد جولة السير الطويلة التي قد تمتد ساعتين، والتي يتناول فيها الحديث كل شيء، لا بد من الشاي الصيني، بعد أن يكون قد أعاد إحياء تقاليد «مدرسة المشّائين الفلسفية» اليونانية، التي كان فيها تلاميذ هذه المدرسة يسيرون ويفكرون بشؤون الكون والحياة. وها هو بري يحدق بك تاركاً عينيه تسبران أغوارك لمعرفة أي نوع من البشر أنت، وهو يسألك عن المناطق والمفارق والمعلومات الأخيرة عن الأحداث.
الرئيس العاشق للتبغ والهارب من المنازل إلى الأرض
يخبرك محمود بري، شقيق نبيه بري ومستشاره، عن الأرض والقرية والتبغ وأحوال المزارعين. لم تفصل بيروت والضاحية والولايات المتحدة الأميركية وباريس هذين الرجلين عن أرض بلادهما والزرع فيها.
فما يتحول شعاراً على المنابر ليس أكثر من تيه في أصول وجذور لا يتركها الرجلان تتفلت منهما. يخبرك نبيه بري عن التبغ، يشرح لك نظريته في اتخاذه شتلة التبغ شعاراً له، وهي الزراعة التي أتى بها أحد الأطباء إلى مدينة النبطية أولاً، «لقد جاءنا هذا الطبيب بأمرين، ألا كسّر الله يديه على الأمر الأول وكثّر الله خيره على الثاني. فأما الأول فهو مظاهر اللطم الدموية في عاشوراء، وأما الثاني فهو زراعة التبغ».
هذه الزراعة التي تجبر العائلة الجنوبية على العمل بكل أفرادها لمدة 14 شهراً متواصلة وتستهلك الأرض، هي ما يُبقي الناس في أراضيهم «لو لم تكن زراعة التبغ لما بقي سكان في الجنوب، وخاصة في زمن الاحتلال، فرغم عذاب الدخان، إلا أن تصريف الإنتاج مضمون» يضيف بري.
ويعطيك بري أمثلة عدة عن دور شتلة التبغ في إبقاء المزارعين الجنوبيين في أرضهم، «240 منزلاً من أصل 243 منزلاً في قرية (مسيحية) يعملون في زراعة التبغ، وهي مصدر رزقهم شبه الوحيد، فلولا هذه الزراعة، كيف سيصمدون في منازلهم؟».
ويربط التبغ بالحب والنساء، فيتذكر أشعاراً يرويها جنوبيون عن عشق مزارعات التبغ، أو وعد شاب لحبيبته أن يعمل في زراعة حقول والدها بالدخان. يتوقّف للحظة، ليضيف: «اختصر كل مراحل زراعة الدخان بكلمات في قصيدته».
يبتسم بري حين يخبره أحدهم عن اكتشاف عناصر مضادة للسرطان في نبتة التبغ، فيذكر أبيات شعر أخرى عن مصدر العلّة الذي يحمل الشفاء. ثم يعود إلى كلام السياسة وإدارة البلاد.